رغم طول النهار والأيام الصيفية في هذا البلد إلا أن شهر يوليو لملم أيامه ورحل عنا ليحل محله شهر أغسطس
بأيام حارة ثقيلة .
الصيف هنا متقلب يحاول أن يحافظ على هيبته بحرارة يتركها حتى حين تتمرد عليه الغيوم وتنشر أمطارها على الأرض .. رغم ذلك تأتي أيام فيها بعض برود !
كان قد مضى الأسبوع الأول من شهر أغسطس خانقا بسماء رمادية كئيبة متصلبة لم تخلو من زخات متفرقة هنا وهناك جادت بها تلك الغيمات المتجهمة !
" أعلنت دائرة الأرصاد أن الجو في عطلة نهاية الأسبوع سيكون رائعا .. وقد قرر الزملاء بباقي الأقسام إقامة وجبة غداء خفيفة في غابة بولون فما رأيكما ؟ " قال لنا رياض بصوته الهادئ
" فكرة رائعة فأنا بحاجه لبعض الهواء النقي ولأشعه الشمس " قالت رجاء " ما رأيك ؟ " توجهت بسؤالها إلي
" ل..لا .. لا أعرف ربما لن أستطيع ! " قلت أنا بتردد
" ما هذا .. كل مرة لا تستطيع ؟ ولماذا ؟ " أجابني من فوره رياض
" أجل ماذا بك ؟ ترفض أي خروج معنا ؟ منذ زمن لم نقم بأي شئ معا !! " ردت رجاء بصوت يشوبه الغضب
" حسنا.. سأرى !! " قلت " علي ترتيب الكتب في قسم علم النفس " تابعت منهيا الحديث ومتسللا من بينهما بسرعة وأنا اشعر بنظرات رجاء الغاضبة التي رمت بها على ظهري!!
ترددت قليلا قبل أن أخرج من بيتي صبيحة السبت متوجها للغابة للحاق بزملائي .. لم أخبر رياض ورجاء بقدومي فقد أردت أن أفاجئهما بعدما كنت قد ضايقتهما بتصرفي في الأمس .
كان الجو فعلا رائعا كما أعلنت دائرة الأرصاد الجوية .. دخلت الغابة المشعة بلون أخضر عُكس من أشجارها المخضرة الناضرة .. وعلى العشب الأخضر جلست العديد من العائلات مع أطفالها .. إلى جانب البحيرة الصغيرة التي تسبح فيها بعض الإوزات والبط فرادى وفي مجموعات بحرية وهدوء .
وفي كل مكان أناس تمارس رياضاتها فمنهم من يجري قاطعا أطراف الغابة .. ومنهم من يلعب بالكرة فوق العشب الأخضر الذي تلاعب حشائشه نسمة صيف عليلة .
جلس زملائي تحت شجرة كبيرة كأنها امرأة عجوز بتجاعيد ! .. حين رأيت هذه الشجرة تقف هناك تخيلتها تقف ها هنا من فجر التاريخ .. فقد ارتسمت على جذعها فعلا أثار السنين !
يقهقهون ويتبادلون النكت وجدتهم هناك .. أمامهم فرش غطاء ابيض بمربعات حمراء .. وعليه وضعت أنواع أجبان وخبز قروي وتناثرت عليه حبات عنب خضراء .. وفي الوسط زجاجات مختلفة ما بين نبيذ أحمر وعصائر مختلفة .
بحثت بعيني عن رجاء ورياض فلم أجدهما بين الزملاء .. سألت عنهم فقيل لي أنهم إلى جانب البحيرة هناك .
توجهت من فوري نحوهما لألقي التحية وأعتذر لهما عن تهربي منهما بالأمس .
وجدتهما هناك ..كعصفورين ضمهم العشق !
ممسك بيدها ينظر إلى وجهها بعينين استطيع أن أقول أنهما حائرتين .. تخشيان أن تلتقيا بعينيها المليئتين بسعادة الحب ونشوته !
ويدها تحتضن راحة يده بحنان وتلهف !
وقفت أمامهم مصدوما .. يصعقني ما أرى..حاولت أن أنسحب بهدوء ..لكنها رأتني .. سحبت يدها بارتباك من بين يديه وهبت واقفة متجهة نحوي لكني انسحبت بعصبيه واضحة .. لم استطع أن أتحكم بردود فعلي ولم أقف
رغم نداءاتها المتكررة بتوسل عليّ !
فلحقني هو راكضا .. أمسكني من كتفي وأدارني نحوه .. كنا نقف إلى جانب شلال الماء الصغير المنحدر فوق صخور التل المنخفض وخرير الماء الساقط من الشلال يملأ الفضاء حولنا .
والتقت عيني بعينيه لأول مرة منذ فترة طويلة .
" ماذا بك ؟ " سألني
لم أجبه .. فضلت الصمت ولم أكن اعرف بماذا أجيبه !
" أنت تحبها أليس كذلك ؟ " قال لي بتردد " كان يجب أن تقول لي ذلك من قبل .. أنا لا أحب أبدا أن أخذ شيئا ليس لي " تابع بتردد أيضا !
" ماذا ؟؟ كلا .. كلا .. هل جننت ؟" صرخت مجيبا من هول الصدمة !
" بل تحبها .. هذا ما تدل عليها كل تصرفاتك .. ألم تلاحظ تصرفاتك معنا ؟ .. ماذا تسمي ابتعادك وتجنبنا ؟ ماذا تسمي ردة فعلك اليوم ؟ "
" أنا لا أحبها .. بكل بساطة لأني مثليّ ! " لا ادري كيف صرحت بذلك .. فلم أجد ما أدافع به عن نفسي ولا كيف اثبت عكس ما يقول فقررت أن ألقي هذه القنبلة ليغطي دخانها أفكاره ويبعد فكرة حبي لها عنه ..
وقد نجحت !
يتبع...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق