في حياتنا لحظات تخرجنا عن مسارنا.. تنحرف فينا قليلا بعيدا عن الواقع .. تجعلنا نعيش الحلم ونتذوقه .. ترتفع بنا قليلا عن حجارة الطريق الذي نسلكه وتجعلنا نخطو في فراغ الفضاء الشاسع.
لحظات تكون كفتات الورق المحترق تبعد عن نارها متلألأة تطير بحرية لثوان هاربة من اللهيب لتتلاشي بعدها رمادا منثورا .
وميضا يظهر فجأة فيعمي الابصار ويختفي قبل ان نستطيع ان نفتح عيوننا فنراه.
هذا ما حصل معي حين اخذت مساء اليوم قطار الانفاق الباريسي.. كان مزدحما في ذلك الوقت من المساء حيث يخرج الموظفين والعاملون من عملهم يحملون روتينهم وتعبهم ويجلسون به بوجوه صامته في المترو ويتراصون كاسماك سردين حشرت في علبتها المعدنية.. عيونهم مغروزة في هواتفهم كانغراز السماعات الموسيقية في اذانهم.. يستعجلون الوصول .. يزيد على ارهاقهم تلاحم الاجساد في تلك المساحة الضيقة من عربة القطار حيث تختلط الانفاس بالروائح المختلفة بالحرارة المنبعثة من الاجساد المتدارية خلف ملابسها.
وقفت انا ممسكا بالداعم مثبتا نفسي امام اهتزازات القطار انظر الى اسماء المحطات اعد المتبقي منه.. كنت على موعد وكنت محافظا على عادتي العربية في التأخير .. افكر فيما ساروي لصديقي من حجة تبرر تأخيري حين شعرت باصابع تلامس يدي .. ازحتها قليلا ظانا ان يدا تبحث لها عن مكان تتمسك به فاصطدمت بيدي .. لكن الاصابع عادت ودغدغت يدي .. رفعت عيني انظر الى صاحبها فتجمد الدم في عروقي.. كان رجلا يقف على عتبات عامه الاربعين كما بدا لي.. شعره خليط من الاسود والرمادي .. لحيته سوداء باهت لونها وعينيه ذهبية اللون براقة تسر الناظرين .. ابتسم لي فرددت عليه ابتسامته بمثلها .. قرب يده كلها هذه المرة واحتضن يدي .. فعصفت بي انا قشعريرة سرت في خلايا جسدي كلها.. توقف القطار في محطته فتراجعت الى الخلف سامحا لمن اراد النزول ان ينزل.. لم يقل الازدحام فعدد الصاعدين ملأ فراغ النازلين.. وجدت نفسي محشورا ظهري الى الباب وظهره هو الي .. الصق مؤخرته بعضوي في غفلة عن من حولنا .. ثم صار يحركها باثارة ويحكها بي.. فانتفخ عضوي مثارا حتى كاد ينفجر .. مد يده يتحسسه ويتخيله بلمساته .. اخرجت هاتفي من جيبي ومددته له .. ترك ما كان يتحسسه وامسك بهاتفي يسجل رقمه واسمه .
فتح الباب خلفي حين توقف القطار ودخل هواء بارد جدد الهواء الخانق .. وكانت تلك محطتي فنزلت .. لحقني .. لعله ظن اني اسكن هنا واراد ان نحقق ما تخيلناه في وسط الزحمة بوحدنا ين جنبات سريري ..
"مرحبا" قال لي .. "اهلا" قلت له .. كانت كلمات لا داعي لها فكل منا فهم الاخر وكل منا اشتهى صاحبه.. لم نكن نحتاج للكلام.. "نزلت هنا من اجلك " قال .. ابتسمت .. تابعنا حوار العينين ماشين نحو المخرج.. كان لوني قد اصبح احمرا خجلا من موقفي واثارة مما امر به .. " لدي موعد الان وانا متأخر" قلت صاعدا الدرج .. تبعني .. امسك بي وشدني اليه.. قبلني وحشر لسانه في فمي.. شعرت اني ارتفعت بضع سنتيمترات عن رخام الادراج الحجرية الصماء .. لم انتبه للقليلين الذين مروا الى جانبنا .. غاب كل شئ وشعرت فجأة بالحب.. كأني اعرفه من سنوات واحبه .. كنا كعاشقين التقيا بعد فراق فاطفئآ لهيب الشوق برطب القبلات.. سحب لسانه اللذيذ من فمي وشفتيه العاجيتين الشهيتين عن شفتي وتراجع قليلا الى الخلف .. "اتصل بي" قال وهبط الادراج عائدا الى داخل المحطة وغاب.. وتابعت انا صعودي الى الخارج الى ضوضاء الشارع الذي كان قد اختفى من اذني تاركا مكانه لصفير القبلة التي تبادلناها.. بهرني ما تبقى من نور النهار المنسحب مع المساء تاركا مكانه لعتمة تحمل معها الليل.. كنت كمن غفا قليلا ثم صحا فجأة بقلب يخفق بشدة.. كمن أغمض عينيه للحظات فغاب ثم عاد..
كانت تلك هي الومضة التي اعمتني لثانية عما حولي وادخلتني في عالم الاحلام الوردي .. في لحظات عشت مغامرة حب.. تخلصت من الواقع وهربت للحظة خيال وعشت قصة عشق بتفاصيلها .. صدفة اهدت لقاءا فعناقا فقبلة فوداع.
تواصلت معه بعدها في الليل لكن الخيال وانخطاف اللحظة التي عشناها معا تحطم على ارضية الواقع ..فهو مرتبط.. كنت اعلم حتى لو عدت وقابلته انا ما مررنا به لن يعود.. فلحظات الخوارق تلك التي تشكل حياتنا كالفسيفساء ليست تعاد.. وما حياتنا الا لحظات انخطاف نعيشها فتتشكل كوميض برق ظهر بين تلبد الغيوم سريعا ثم غاب !